الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام
.تفسير الآية رقم (220): قال الله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}.العنت: المشقة. {عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] ما شق عليكم. وأعنته: أي صيّره ذا مشقة.روي في سبب نزول الآية أنّه لما نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً} [النساء: 10]، تحرّج النّاس عن مخالطتهم في الأموال، واعتزلوهم. فأنزل الله هذه الآية.المعنى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}.يعني قصد إصلاح أموالهم خير من اعتزالهم، وإن تخالطوهم ولم تجانبوهم فهم إخوانكم في الدين، والأخ يخالط أخاه ويداخله، ولا حرج في ذلك، فكانت هذه الآية إذنا في المخالطة مع صحة القصد، لا مع قصد أن ينفع نفسه بهذه الخلطة، ويضرّ باليتيم، ولا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعة إلى أكل أموالهم بغير حق، فالله يعلم من خالطهم بقصد أكل أموالهم، وإفسادها عليهم ممن خالطهم، وكان قصده إصلاح أموالهم وتثميرها، ولو شاء الله لحرّم ما أحلّه لكم من مخالطة أموالكم بأموال اليتامى، فجهدكم وشقّ عليكم {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} غالب يقدر أن يشقّ على عباده ويحرجهم {حَكِيمٌ} ولكنه لا يكلفهم إلا ما فيه طاقتهم..الأحكام: دلت هذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح، فيجوز لولي اليتيم أن يبيع ماله، وأن يشتري له، وأن يقسم له، وأن يدفع مالا له لمن يعمل فيه قراضا ومضاربة، وأن يعمل فيه الوليّ نفسه قراضا، وأن يخلط ماله بماله إذا كان ذلك صلاحا.قال أبو بكر الرازي: وقوله: {وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ} يدل على أن لولي اليتيم أن يخالط اليتيم بنفسه في الصهر والمناكحة، وأن يزوّجه بنته، أو يزوج اليتيمة بعض ولده، فيكون قد خلط اليتامى بنفسه وعياله، واختلط هو بهم.وإذا كانت الآية قد دلّت على جواز خلط مال اليتيم بماله في مقدار ما يظن أن اليتيم يأكله على ما روي عن ابن عباس: فقد دلّت على جواز المناهدة التي يفعلها الناس في الأسفار، فيخرج كلّ واحد منهم شيئا معلوما فيخلطونه ثم ينفقونه، وقد يختلف أكل الناس.وقد دل قوله: {إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} على أن التجارة في مال اليتيم وتزويجه ليس بواجب على الوصي، لأنّ ظاهر اللفظ يدلّ على أنّ مراده الندب والإرشاد..تفسير الآية رقم (221): قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}.المعنى: ولا تتزوجوا أيها المؤمنون المشركات حتى يؤمن بالله وباليوم الآخر، ولأمة مؤمنة بالله ورسوله أفضل من حرّة مشركة وإن كرم أصلها، وإن أعجبتكم المشركة في الجمال والحسب والمال. ولا تزوّجوا المشركين من نسائكم المؤمنات حتى يؤمنوا بالله ورسوله، ولأن تزوجوهنّ من عبد مؤمن بالله ورسوله خير لكم من أن تزوجوهنّ من حر مشرك وإن أعجبكم في الحسب والنسب والشرف.هؤلاء الذين حرّمت عليكم مناكحتهم من الرجال المشركين والنساء المشركات يدعونكم إلى العمل بما يودّي بكم إلى النار، فلا تخالطوهم، ولا تصاهروهم، إذ المصاهرة توجب المداخلة والنصيحة، وهؤلاء لا يألونكم خبالا، والله يدعو إلى العمل الذي يوجب الجنة وستر الذنوب بإعلامه إياكم السبيل الحق، ويوضّح حججه وأدلته للناس ليتذكّروا فيميّزوا بين الخير والشر.وقد اختلف العلماء في هذه الآية، فذهب بعضهم إلى أن لفظ المشركات يعمّ كلّ مشركة، سواء أكانت وثنية أم يهودية أم نصرانية، ولم ينسخ أو يخصّ منها شيء، فيكنّ جميعا قد حرّم على المسلم زواجهنّ.وذهب بعضهم على أن المراد بالمشركات من لا كتاب لهنّ من المجوس والعرب دون الكتابيات، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمشركات عامّ في جميع من ذكرن، إلا أنه نسخ بقوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5].وسبب الخلاف أنّ كلّ كافر بالحقيقة مشرك، ولذلك يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كره نكاح اليهودية والنصرانية، وقال: أيّ شرك أعظم ممّن يقول: عيسى الله، أو ولد الله؟ تعالى الله عمّا يقولون علوا كبيرا.والعرف قد خصص المشرك بمن لا كتاب له من الوثنيين والمجوس. وقال الله: {ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وقال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1] وقد ورد في سورة المائدة: {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] فبعضهم حمل لفظ المشركات على عمومه، فحرّم كلّ مشركة ولو كتابية.وزعم أنّ قوله تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} مقيّد بقيد وهو إذا آمنّ، وبعضهم حمل المشركات على عمومه وقال: آية المائدة مخصّصة، وقال بعضهم: هي ناسخة، لأنّها أخرجت الكتابيات من الحرمة.وبعضهم حمله على العرف الخاص، فقال: لا نسخ ولا تخصيص. وهذه الآية أفادت حكما، وهو حرمة نكاح الوثنيات والمجوسيات، وآية المائدة أفادت حكما آخر، وهو حلّ نكاح الكتابيات، فلم تتعارضا.وممّن روي عنه القول بحرمة الكتابيات عمر بن الخطاب.فقد أخرج ابن جرير عن شهر بن حوشب. قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات كل ذات دين غير الإسلام.وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5].وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب غضبا شديدا، حتى همّ بأن يسطو عليهما، فقالا: نحن نطلّق يا أمير المؤمنين، ولا تغضب، فقال: لئن حلّ طلاقهنّ لقد حلّ نكاحهنّ، ولكن أنتزعن عنكما حقرة قمئة.وقد قال ابن جرير بعد ذلك: وأما القول الذي روى شهر بن حوشب عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنه من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين كانتا كتابيتين فقول لا معنى له، لمخالفته ما الأمة مجمعة على تحليله بكتاب الله- تعالى ذكره- وخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول بخلاف ذلك ما هو أصحّ منه إسنادا، وروى بسنده عن عمر: المسلم يتزوج المسلمة، وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة رضي الله عنهما، نكاح اليهودية والنصرانية حذرا من أن يقتدي بهما الناس، فيزهدوا في المسلمات. أو غير ذلك من المعاني.ورحم الله عمر بن الخطاب. فقد كان ينظر إلى مصالح المسلمين، نسائهم ورجالهم، ويسوسهم بالنظر والمصلحة، وما أحوجنا إلى مثل هذه السياسة، فإنّ كثيرا من الشباب المسلمين في مصر رغبوا عن الزواج من المحصنات المسلمات إلى الزواج بالكتابيات الأجنبيات..تفسير الآية رقم (222): قال الله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}.المحيض: هنا الحيض، كالمعيش: أي العيش. قال رؤبة:{أَذىً} الأذى ما يؤذي به من مكروه فيه، وسمي المحيض أذى لنتنه وقذره ونجاسته، وقال السدي وقتادة: أذى قذر. .سبب نزول هذه الآية: قال قتادة: إنّ أهل الجاهلية كانوا لا تساكنهم حائض في بيت، ولا تؤاكلهم في إناء، فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، فحرّم فرجها ما دامت حائضا، وأحلّ ما سوى ذلك أن تصبغ رأسك. وتؤاكلك، وأن تضاجعك في فراشك إذا كان عليها إزار محتجزة به دونك.{فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ} اختلف أهل العلم فيما يجب على الرجل اعتزاله من المرأة وهي حائض على أقوال:1- إن الذي يجب اعتزاله جميع بدن المرأة، وحجتهم في ذلك أن الله أمر باعتزال النساء، ولم يخصّص من ذلك شيئا دون شيء.2- الذي يجب اعتزاله موضع الأذى، وذلك مخرج الدم.أخرج ابن جرير عن مسروق بن الأجدع قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: كلّ شيء إلا فرجها، وحجتها ما ثبت في الأخبار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يباشر نساءه وهنّ حيّض. فعلم من ذلك أن الذي طلب اعتزاله بعض جسدها دون بعض.ولما أجمعوا على حرمة الجماع، واختلفوا في غيره، أخذوا بالمجمع عليه، وتركوا المختلف فيه.3- إن الذي أمر باعتزاله ما بين السرة إلى الركبة، وله ما فوق ذلك ودونه.وحجتهم ما ثبت عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تأتزر، ثم يباشرها.{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} في هذه المسألة ثلاثة أقوال:1- قال أبو حنيفة: يجب أن تؤتى المرأة إذا انقطع دم الحيض ولو لم تغتسل بالماء. إلا أنه إذا انقطع دمها لأكثر الحيض حلّت حينئذ، وإن انقطع دمها لأقل الحيض لم تحل حتّى يمضي وقت صلاة كامل.2- قال مالك، والزهري، والليث، وربيعة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: لا تحل حتى ينقطع الحيض، وتغتسل بالماء غسل الجنابة.3- يكفي في حلها أن تتوضأ للصّلاة. قاله طاوس، ومجاهد.وسبب الخلاف بين الأولين أن الله قال: {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ} الأولى بالتخفيف، والثانية بالتشديد، وطهر يستعمل فيما لا كسب فيه للإنسان، وهو انقطاع دم الحيض. وأما تطهّر فيستعمل فيما يكتسبه الإنسان، وهو الاغتسال بالماء.فحمل أبو حنيفة {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} على انقطاع دم الحيض، وقوله: {فَإِذا تَطَهَّرْنَ} على معنى: فإذا انقطع دم الحيض، فاستعمل المشدّد بمعنى المخفف.وقالت المالكية بالعكس، إنه استعمل المخفّف بمعنى المشدّد، والمراد: ولا تقربوهن حتى يغتسلن بالماء، فإذا اغتسلن فأتوهنّ، بدليل قراءة بعضهم {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتشديد، وبدليل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} أو يستعمل كل واحدة في معناها، ويؤخذ من مجموع الكلامين أنّ الله علّق الحلّ على شيئين: انقطاع الدم. والتطهر بالماء، كقوله: {وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ} [النساء: 6] فعلّق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين:أحدهما: بلوغ النكاح.والثاني: إيناس الرشد.ورجع الحنفية ما ذهبوا إليه بأنّ استعمال المشدّد بمعنى المخفّف لا يحتاج إلى إضمار شيء. أما مذهب المالكية فيحتاج إلى إضمار (بالماء).وقالوا على الثاني: إنّ ما ذهبتم إليه يخل بحكم الغاية، أمّا ما ذهبنا إليه فيحفظ حكم الغاية، ويقرها على أصلها، ويوافق ما يفهمه العرب من مثله، فإذا قلت: لا تعط زيدا حتى يدخل الدار، فإذا دخل الدار فأعطه درهما. كان المفهوم منه أن ما ذكر في الشرط هو المذكور في الغاية، وليس ذلك تجديد شرط زائد.{فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} بالنكاح لا بالسفاح، وقيل: من حيث أحلّ لكم الإتيان لا صائمات ولا محرمات ولا معتكفات. وقيل: من حيث أمركم الله باعتزالهن، وهذا الأمر للإباحة. لا للوجوب، لأنّه بعد الحظر، وقد اختلف فيه، والحق أنه لا يقتضي الوجوب، وذهب ابن حزم إلى أنه يجب غشيانهن بعد الطهر.{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.محبة الله: هي إرادته ثواب العبد.والتوبة: هي رجوع العبد عن حالة المعصية عن إتيان النساء في غير موضع الحرث، وقيل: هم الذين لا ينقضون التوبة، طهّروا أنفسهم بعدم الرّجوع إلى المعصية، والأول هو المنعطف على سابق الآية. المنتظم معها.
|